سادية جديدة باسم المصلحة العليا: "الدولة الذكورية" تدفن حق المرأة بمنح جنسيتها لأولادها نهائياً
"لا حق للمرأة اللبنانية بمنح جنسيتها لا لأولادها ولا لزوجها، فمن شأن ذلك الإضرار بالتوازن الطائفي الديموغرافي في البلاد، وبالمصلحة العليا للوطن".. هذا هو فحوى القرار والتوصية التي رفعتها اللجنة الوزارية التي كلفها مجلس الوزراء دراسة القضية إثر طرح مشروع مرسوم حق اللبنانية بمنح جنسيتها لأولادها في 21 اذار الماضي، في ما روج له يومها على أنه "عيدية" الحكومة للمرأة اللبنانية في عيد الأم.
وجاءت "الهدية" المرّة والمحبطة للنساء في لبنان بعد طول انتظار عبر التوصية بالرفض التي رفعتها اللجنة الوزارية إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إثر إجتماعها بتاريخ 14 كانون الأول المنصرم، لتقضي على أي بذرة أمل ولدت لدى المرأة اللبنانية بالتمتع بالمساواة.
والمضحك المبكي في محضر التوصية السري، الذي حصلت المفكرة القانونية على نسخة منه، أن اللجنة الوزارية عادت إلى تفسير سابق للمجلس الدستوري يقول بإمكانية تجاوز مبدأ المساواة المكرس في الدستور اللبناني إذا كان تطبيقه يمس بالمصلحة العليا للبلاد، مع العلم أن هذا المجلس اعتمد التفسير المذكور في سياق الطعن بالقانون الذي حرم الفلسطينيين من حق التملك العقاري.
واللافت أنه باستثناء وزير الشؤون الإجتماعية وائل ابو فاعور، يحمل محضر التوصية تواقيع جميع أعضاء اللجنة وهم نائب رئيس مجلس الوزراء سمير مقبل رئيساً وعضوية وزراء العدل شكيب قرطباوي والداخلية مروان شربل والخارجية عدنان منصور ووزير العمل سليم جريصاتي ووزير الإعلام وليد الداعوق. ولدى اتصال "المفكرة" بالوزير فاعور، أكد عدم علمه بالقرار والتوصية، مؤكداً أنه لم يدع إلى الإجتماع المذكور. وأشار أبو فاعور أنه سيبحث الموضوع مع رئيس الحكومة الذي سيلتقيه اليوم. مع العلم أن اللجنة أشارت في محضرها أنها وصلت إلى قرارها بـ "الإجماع"، فعن أي اجماع نتحدث؟
واستندت اللجنة في توصيتها التي تكرس التمييز السلبي بحق النساء في لبنان، وتؤكد ذكورية الدولة تجاه نصف المجتمع، إلى جملة من المعطيات التي تخالف في جوهرها حقوق الإنسان وتتناقض مع مجمل الإتفاقيات الدولية التي وقعها لبنان. وفي بعض ما استندت إليه، لا تخالف اللجنة الوزارية بنود الإتفاقية الدولية للقضاء على كافة اشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) فقط، حيث ذكرت بتحفظ مجلس النواب اللبناني على البند الثاني من المادة التاسعة من الإتفاقية، والذي يتعلق بمنح المرأة حقاً متساوياً مع حق الرجل في ما يتعلق بجنسية أولادها، بل أنها ذهبت أبعد من ذلك في إتجاه السعي إلى إعطاء أسس دستورية لقرارها. فـ "مواءمة مقتضيات العيش المشترك والمناصفة والتساوي والفعالية في معرض التمثيل النيابي (المكرسة دستورياً) تصبح أكثر تعذراً وتعقيداً في ظل تفاقم الخلل الديموغرافي بين أبناء الشعب اللبناني من المسيحيين والمسلمين قبل التحرر المأمول من القيد الطائفي"، مما يسمح اذا بالشذوذ عن مبدأ المساواة بين الجنسين. ولتدعيم وجهة نظرها، استندت اللجنة صراحة إلى قرار سابق للمجلس الدستوري إثر الطعن بالقانون الذي حرم الفلسطينيين من التملك العقاري. وتضمنت التوصية فقرة تفيد "بما أنه سبق للمجلس الدستوري أن أورد أن مبدأ المساواة الذي يتمتع بالقوة الدستورية لا يعمل به عند وجود أوضاع قانونية مختلفة لا يصح معها إعمال المساواة، أو عندما تقضي بذلك مصلحة عليا..."..وبذلك أصبح بإمكان أعضاء اللجنة والحكومة من خلفهم، لا بل سمحوا لأنفسهم، وبكل ضمير مرتاح، بتغليب المصلحة الطائفية على المصلحة الحقوقية لمواطنين يشكلون نصف المجتمع اللبناني.
واثباتاً للإخلال بالتوازن الطائفي، وفي محاولة لتبرير فعلتها بطريقة تتناغم مع الحساسية الطائفية التي تعوم عليها البلاد، أشارت اللجنة إلى "أن وزارة الداخلية زودتها بأرقام عن عدد المستفيدين من منح الأم اللبنانية الحق بمنح جنسيتها لأولادها والجنسيات والطوائف التي ينتمون إليها، وهي أرقام تخل بالتوازن الديموغرافي الطوائفي إخلالاً كبيراً، فضلاً عن شمولها عدداً لا يستهان به من الفلسطينيين". وتظهر الأرقام التي حصلت عليها اللجنة من وزارة الداخلية أن الأجانب الذين سينالون الجنسية من خلال أمهاتهم اللبنانيات يصل إلى نحو 380 ألف شخص والأهم توزع جنسياتهم وطوائفهم. وتوقفت اللجنة في توصيتها أمام عديد الفلسطينيين الذين سينالون الجنسية من أمهاتهم، لتحذر من الموضوع وتأثيره على التوازنات اللبنانية. إذ يبلغ عدد النساء اللبنانيات المتزوجات من فلسطينيين أربعة آلاف وخمسمائة إمرأة من أصل 76 ألف إمرأة لبنانية متزوجات من أجانب، وهي نسبة ليست كبيرة مقارنة مع التهويل الذي يلوح به معارضو منح المرأة اللبنانية جنسيتها لأسرتها. مع العلم أن اللجنة نفسها أشارت إلى حصول 15 ألف إمرأة فلسطينية على الجنسية اللبنانية نتيجة زواجهن من لبنانيين، ولكن ذلك لا يعتبر مشكلة طالما أن مانح الجنسية هنا هو رجل، بالمفهوم الذكوري للمسؤولين في لبنان وفلسفتهم الحقوقية التمييزية السلبية تجاه المرأة.
وانتهت اللجنة إلى الإعتبار، وبناء على كل ما تقدم "أنه من حق الدولة اللبنانية، وفي ضوء مصلحتها العليا، أن تقرر وضع القيود التي تحدد مداها لإكتساب غير اللبنانيين الجنسية اللبنانية، إذ تمارس في ذلك حقاً سيادياً محفوظاً لها دون سواها على الأرض اللبنانية، لا سيما إذا كان اكتساب الجنسية يتعارض مع مبدأ رفض التوطين (زواج اللبنانية من فلسطيني) أو يخل بصورة فاضحة بالتوازن الديموغرافي أو يزيده تفاقماً، على ما حصل في مرسوم التجنيس في العام 1994". يذكر أن المرسوم المذكور شهد الكثير من المحسوبيات الطائفية والمذهبية والرشاوى التي مررها زعماء السياسة والطوائف يومها.
وخلصت اللجنة "بالإجماع" كما ورد إلى اقتراح "عدم الموافقة على مشروع القانون المذكور والإستعاضة بإجراءات من شأنها منح كل الحقوق لأولاد اللبنانية المتزوجة من أجنبي مع استثناء الحقوق السياسية. وتبعاً لذلك، اقترحت منح إقامة دائمة من دون بدل عوضاً عن سمة المجاملة، والحق بالتعليم والانتساب إلى المدارس والمعاهد والجامعات كافة والحق في العمل في القطاعات الخاصة والحق في الطبابة والاستشفاء في القطاع الصحي العام والخاص والاستفادة من تقدمات وزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية والصندوق الوطني الاجتماعي. الا أن ذلك لم يمنعها في حمأة تعداد الحقوق التي تقترح منحها عن استثناء حقوق أخرى تحفظها فقط للمولودين من ذكر لبناني وهي حق العمل في المهن الحرة والقطاع العام أو القطاعات التي تنص القوانين والأنظمة والقرارات المتعلقة بها على توافر شرط الجنسية اللبنانية صراحة وهي قطاعات واسعة جداً. كما تجدر الإشارة إلى أن اللجنة لم تذكر الأزواج البتة وما إذا كانوا يستفيدون من الإجراءات التحسينية أم سيقتصر إقتراحها على أولاد اللبنانيات وحدهم.
وتعليقاً على توصية اللجنة، أكدت منسقة حملة "جنسيتي حق لي ولأسرتي"لينا بوحبيب شعور القيمين على الحملة "بالإمتعاض جداً والغضب من هذه النتيجة"، ورفضها "جملة وتفصيلاً وبالمطلق". وأشارت بوحبيب إلى إجتماع عقدته الحملة مع اللجنة في الثالث من كانون الأول الماضي، حيث أكد لهم أعضاؤها أنهم سيدرسون الموضوع بمناخ إيجابي. وقام ممثلو الحملة بتبليغ نتائج اجتماعاتهم مع اللجنة للسيدات المعنيات بالقضية والمناصرين لها خلال اجتماع الهيئة العامة للحملة قبل نحو عشرة أيام وتركت أجواء إيجابية وآملة بين النساء. وبذلك لم يكن نساء الحملة يدركون ما تعد اللجنة لهم. وتشير بو حبيب إلى أن الحملة إتصلت بمكتب رئيس اللجنة سمير مقبل يوم الجمعة الماضي وسألت عما وصلت إليه الأمور، فأكدوا لهم أنهم لم يجتمعوا بعد، في حين أن توصيتهم وقرارهم مؤرخ في 14 كانون الماضي، "ليفاجأونا بتوصيتهم الظالمة والمتناقضة مع حقوق الإنسان والمرأة، والتي تحمّل النساء وزر الطائفية البغيضة في لبنان بحيث تشكل النساء بنظرهم خطراً على المصلحة العليا للدولة".
وبعدما عبرت عن استياء القيمين على الحملة مما حصل، أكدت بو حبيب نية الحملة بالتصعيد "لأن ما حصل غير مقبول ومرفوض"، مؤكدة أنه "سيتم الإعلان عن الخطوات اللاحقة بعد التشاور مع السيدات المعنيات". وعليه، قضت اللجنة الوزارية على أمل اللبنانيات وحقهن بالتمتع بالمواطنة الكاملة والمساواة، وليس حملهم لجنسية من الدرجة الثانية لا تخولهن منح جنسيتهن لأولادهن الذين ولدوا وترعرعوا في لبنان ولا يعرفون وطناً سواه. والمؤسف في الموضوع أن هذه الحكومة نفسها أقرت مشروع قانون يخول اللبنانيين المتحدرين من أصل لبناني منذ العام 1921 إستعادة جنسيتهم اللبنانية، برغم أن غالبية هؤلاء لا يعرفون موقع لبنان على الخارطة الدولية، ولا يتحدثون لغته ولا يشعرون بأدنى الإنتماء إليه.
وحاولت اللجنة الوزارية تغطية جريمتها بالتوصية بسلة من الحقوق لأبناء المرأة اللبنانية المقيمين في لبنان، من إقامة مجانية وحق العمل (ولكن هناك استثناء لبعض المهن) وبالتطبب في المستشفيات الحكومية وبالإنتساب إلى الضمان الاجتماعي وغيرها من التقديمات التي كان بإمكانهم الحصول عليها وعلى العديد من الحقوق الأخرى، لو تم اقرار حقهم بالجنسية من دون منة من أحد. الدولة اليوم دولة ذكورية بإمتياز.. بل هي دولة سادية قبل كل شيء.
[يعاد نشر المقالة بالإتفاق مع المفكرة القانونية.]